الهامش باعتباره خياراً والتحلّي بالهشاشة مقابل العنف

قراءة في بعض ما يقدم في مشهد فنون الأداء في بيروت في العامين 2017-2018

 

عبدالله الكفري

جامعة القديس يوسف

 

 

 

نقف في هذه القراءة عند بعض العروض المسرحية التي تم تقديمها خلال العامين 2017 و2018 في بيروت، في محاولة للتأمل فيما يشغل صانعي وممارسي فنون الأداء في لبنان، ما هي أهم الأفكار الجوهرية التي يحاولون تقديمها وما هي أهم المرتكزات التي يسعون إلى المشاغبة حولها. تحاول هذه القراءة أن ترسم ناظماً محدداً يمكن من خلاله التأمل في معنى ما يقدم.

خلال متابعتنا لما يقدم لفتنا عدة أفكار وإحداها هي الاحتفال بقيمة الهشاشة كممارسة مدنية متجذرة في صميم الأعمال وهي شكل من أشكال الرفض لتغيرات المجتمع. نرى أن هذه الموضوعة تم طرحها كقيمة أثيرة لدى عدد من صانعي المسرح في بيروت، الهشاشة بكونها خياراً يعشه الأفراد في لبنان في سياق مجتمع يعاني الكثير من التناقضات والتحديات، يبدو فيها الفرد صاحب الألم والخسارة الأكبر وهي أيضاً خيار في مواجهة العنف، وإننا هنا نجادل أن هذه المزاوجة بين الهشاشة والهامش تم اختبارها على المسرح باعتباره وسيط حيوي وليس مجرد مكان عرض من خلال التعامل مع خشبة المسرح بكونها تمثل الذاكرة و/أو المدينة.

لنناقش هذه النقاط سنتوقّف عند عددٍ من الأعمال المسرحية التي تم عرضها في بيروت خلال العامين 2017 و2018. تعود معايير اختيار العينة إلى مقومات عدة أهمها أن أصحاب العروض المختارة لديهم تجارب مسرحية وليست ضمن إطار التجربة الأولى لصانع العرض، كي نستطيع أن نربط في تحليلنا مع ما سبق لأصحاب التجارب. وأن العروض المختارة تم تقديمها لفترة زمنية تتعدى العرض لمرة واحدة، كما أنها من إنتاج فئات عمرية متنوعة، ومن أصحاب تجارب فنية مختلفة وتم تقديمها خلال فترات زمنية ممتدة على العامين 2017 و2018.

إن الأعمال التي ندرسها في سؤالنا هي: جواكر لفرقة زقاق المسرحية من إخراج عمر أبي عازار وجنيد سري الدين- أداء لميا أـبي عازار، جنيد سري الدين، مايا زبيب- جوغينيغ: إخراج وأداء حنان الحاج علي، Meteo Beyrouth: كتابة وإخراج عايدة صبرا، أداء: رودريغ سليمان وإيلي نجيم- حكاية الرجل الذي سكن ظله: إخراج هاشم عدنان، كتابة فادي توفيق، أداء فادي توفيق، هاشم عدنان.

 

جواكر: قاع المدينة بوصفه خياراً للمقاومة

افتتحت فرقة زقاق المسرحية فضاءها المسرحي الجديد في تقاطع كورنيش النهرـ برج حمود، بعرض جواكر الذي يرصد يوميات ثلاث شخصيات تعيش على هامش المدينة، نحن نراها في كواليس كاباريه وهي تتجهز لعرض ما، لا نعرف إن كانت تستعد لعرض هو موجود في الأصل أم أن هذه الشخصيات متواجدة هناك وفقط.

الشخصيات هي سيدة متحولة جنسياً، سيدة بغاء ذات طبيعة ذكورية، وبائعة هوى حامل من علاقة خارج الزواج؛ لا يوجد حدث في العرض بالمعنى التقليدي، إنما نحن نتلصص على تفاصيل من يوميات مهملة تعكس أفكاراً وانطباعات تتعلق بالجندر والجنس وتسائل قيمة "الأخلاق" كما يتضح من تفاعل الشخصيات من خلف الكواليس.

تبدو الشخصيات مجردة من القدرة على الفعل، الفعل الوحيد الذي تقوم به تقريباً هو الكلام، يمتزج هذا الكلام بالبوح، يعكس التهميش الذي يمارس على هذه الشخصيات، كما يعكس الوسم الاجتماعي المفروض عليها وهناك حكاية محورية تدور حول طفلٍ سيولد ولا نعرف أيضاً إن كان المقصود هو الطفل الذي تحمل به بائعة الهوى أم طفلٌ آخر. طوال العرض لا تجعل الشخصيات من أنفسها ضحايا ولا تتذرع بخطابٍ ضحايوي، إنما تتحدث عن "خيارات"، اختارت هذه الشحصيات ضمن هوامش ضيقة ما هي عليه اليوم، وما نراه خلال هذا العرض هو ثمن الخيارات؛ هذا الطرح يعزز من شرعنة معنى أن تكون على الهامش، إنه الامتياز في الاختلاف، وفهم مكامن العنف التي تدفع هذه الشخصيات إلى امتهانه كرد فعل على الاحتقار الممارس عليها من المجتمع.

هذه الشخصيات مرفوضة من مجتمع يرى فيها الشذوذ والمرض، ينعكس ذلك في كراهية للذات تمارسها هذه الشخصيات من دون محاولة لتبرير أفعالها، تتمحور هذه الكراهية حول قضية مصير طفلٍ يتم الحديث عنه على الدوام، طفل يجب أن يولد ولا نعرف تماماً كيف سيتم الأمر.

لا يمكننا خلال مدة العرض أن نتأكد من دقة العلاقات الناظمة للشخصيات، لا يمكننا حتى أن نتأكد من أن هذه الشخصيات موجودة في مكان واحد أو أنها ثلاث شخصيات بقدر ما هي شخصية واحدة، هذا التفتيت والبعثرة من شأنه أن يجعل "الانتصارات الصغيرة" التي تحياها الشخصيات لها قيمة، وربما للسبب ذاته تمارس الشخصيات على الدوام السخرية من الحياة وتتحدث عن احتمالات الانتحار.  

في جواكر يصبح الهامش بديلاً عن الطرد الاجتماعي الذي يملأ حياة الشخصيات ويسيطر على أهوائها وأحلامها، هذا الهامش لم يعد مؤقتاً تصارع الشخصيات لتتركه، إنما هو ملجأ من قباحة المدينة وعنصرية قاطنيها. يصبح طردههم الاجتماعي طرداً مستمراً لا يزول إلا من خلال تغيير الواقع، ومن هنا تلجأ الشخصيات إلى واقع مغاير هش تعبر عنه بالأحلام والتي تتلخص بالزواج والاستقرار والإنجاب، وأمام هذا الواقع البديل تبدو الشخصيات ضحايا حقوقها المسلوبة منها.

يكون الحوار شظايا عن حياة معطلة انمحت واضمحلت بين التخفي والعيش في العتمة، الاختباء في كواليس النوادي الليلية، وأماكن المغامرات الجنسية ومنطق الشظايا هو ما يحكم العرض من خلال اعتماد تقنية الذاكرة بوصفها المحرك الأساسي له، فنحن نتأمل في محاولات الشخصيات للتذكر والتمني طيلة ساعة من العرض، هم يتذكرون أحداثاً لا نعرف إن كانت قد حدثت، كما أنهم يتمنون أموراً وأحلاماً لا نعرف إن كانت ستحدث.

تتضح هشاشة الخيارات عندما ندرك أننا في هذا العرض أمام لقاء بين ثلاث شخصيات وأحلامهم، ومن هنا فإن وجود الشخصيات طيلة الوقت على الخشبة هو أساسي، لأن خروج هذه الشخصيات يعني دمار ونهاية شرعية الحلم، هو لقاء بين شخصية وحكي (كلام) وحلم، والحكاية تتكون من تراكب هذه المكونات الثلاثة، ومن هنا يصبح فضاء الكاباريه/ المسرح هو تعبير عن الموقع الملتبس الذي هم فيه، فهم متفرجون على الحكايا، وهم لاعبون.

تتسع تيمة اللعب في العرض إلى لعب الأدوار، السيدة المتحولة جيجي والتي يلعب دورها جنيد سري الدين، تتحدث عن حلمها في أن تتزوج و"تلعب" دور سيدة في علاقة تبدو "طبيعية"، هذا التموضع للشخصية على خشبة المسرح باعتبارها مكان الحلم هو من العناصر الأساسية في قراءة العرض، من هنا فإن الوجود الفعلي على الخشبة يفتح مقاربة أخرى لفهم وتحليل خطاب العمل من كون الشخصيات هي النص أيضاً، ووجودها على الخشبة/ كواليس الكاباريه هو أساس قراءة العمل.

في الجواكر عمدت زقاق إلى تحويل فضاء المسرح إلى مكان اختبار للذاكرة على مستوياتها الثلاثة: الشخصية، الجماعية، المشتهاة. كل هذه الاسئلة تضعنا أمام مواجهة مع أفعال العنف المديني الممنهج والذي تواجهه الشخصيات من خلال أحلامها: فالأسئلة هي كيف نحول الأحلام لتجربة يؤمل أن تعيشها ثلاث شخصيات ملفوظة من المجتمع خلال ساعة من الزمن؟ كيف يمكن أن نحول الأحلام لتجربة يتم اختبارها في المسرح ولا تتم بطريقة أخرى؟

عند النظر في مسيرة زقاق التي بدأت منذ العام 2005، سنجد أننا أمام فرقة تعمل مع المجتمعات المهمشة وضد سياسات التهميش، تطرح على أفرادها وعلى المجتمع سؤال ماذا عليك أن تفعل لتخرج من هذا التهميش؟ في مجتمع لا يتمتع بأي شكل من أشكال الحماية اجتماعياً وفردياً، وهذا يجعل الفن الذي تمارسه زقاق بحد ذاته مهمشاً ضمن المنظومة الاجتماعية والفكرية التي يقوم عليها المشهد الفني الثقافي اليوم في لبنان.

في معرض نقاش هذه الفكرة يقول المخرج جنيد سري الدين "إن سياسات التهميش هي مشكلة أساسية في منظومة البلاد وهي تستطيع أن تكشف لك مكامن السلطة والقوة، إنها مثل الثقب الأسود الذي لا يمكنك رؤيته بحد ذاته ولكن يمكنك رؤية ما يحجبه وكذلك الأمر مع التهميش، أحياناً لا يمكنك رؤية القوة إلا إذا رأيت كيف يحجبها التهميش. وهذا يطرح تساؤلات عن علاقات السلطة والمنظومة الأبوية والبطريركية وسياسات العزل والتطرف والتي تلغي كل الاحتمالات الأخرى، ولكل ما سبق نشعر بقيمة أن نكون في مكان فيه مساحة للاختلاف والتغير."[1]

بدأ العمل في عرض جواكر كما يشرح المخرج من بحثٍ عن المحاكمات التي حدثت في التاريخ وألغت فكراً كاملاً، مثل محاكمة ابن رشد، بعدها انتقلت الفرقة للعمل على فكرة عدالة التاريخ وبعد ذلك قررت النزول إلى الأرض واكتشاف كيف يتمظهر هذا كله في الحياة اليومية لتجده من خلال هذه الشخصيات التي تمثل كبش المحرقة للمجتمع، تماماً مثلما كان ابن رشد كبش محرقة كبير.

من قال إن الشخصيات التي تتصف بتشوه جسدي هي بشعة؟ ومن قال إن من يختارون خيارات جنسية خارج إطار الزواج هم مخطئون؟ يسطع هذا السؤال طيلة عرض جواكر ولكنه يطرح أسئلة عن كيف تعيش هذه الشخصيات ومن اخذوا نفس خياراتها في الواقع- وما هو السياق الذي كانوا فيه سابقاً وكيف تم لقاؤهم في هذا الكباريه. نخرج من العرض ولا نستطيع أن نحدد ما إذا كان هذا الكباريه هو وهم أم حقيقة. هم يعيشون أحلاماً صغيرة في كواليس الكباريه ودائماً يتحدثون عن طفل إما مات أو سيموت أثناء العرض أو سيأتي، وهذا يتعلق بالطريقة التي سيستمرون بها واحتمالات بقائهم واستمراريتهم في الماضي والحاضر والمستقبل؛ ففي الماضي حياتهم مفقودة وفي الحاضر ستقتل، وأما في المستقبل فيمكن أن تأتي.

 

جوغينغ: الركض أمام تراجيديا المدينة

في العام 2017 قدمت حنان الحاج علي عرض جوغينغ، والذي اختارت له عنواناً فرعياً هو "مسرح قيد الإنجاز". العرض مبنيٌ على معالجة لأسطورة ميديا، تأخذ من الأسطورة شقين: وضعية الأم الهشة تجاه العناية بأطفالها، وميديا اللاجئة المشردة التي اضطرت إلى مغادرة مدينتها والعيش في مدينة أخرى بصفة غريبة/ منبوذة.

إلا أن هذا الخيار ليس كل شيء، فحنان لم تعمد إلى اقتباس مباشر للأسطورة وإعادة تقديم نسخة منها، إنما اعتبرت الأساس التراجيدي فيها هو "الكانفا" التي حاكت عليها قصص لسيدات/ مواطنات/ أمهات يعشن التهميش في يومياتهن. ضمن هذه الحكايات تنسج حنان الحاج علي بنية النص من خلال قصص ثلاث سيدات هن: إيفون وهي سيدة متزوجة من جبل لبنان 42 سنة، زهرة وهي سيدة متزوجة من الجنوب 50 سنة، إضافة إلى حنان التي تلعب شخصية الممثلة والأم والمواطنة.

يبني العرض علته على هشاشة وضعية حنان بوصفها سيدة/ مواطنة/ أم أمام متلقٍ/ جمهور/ مدينة وأسطورة، ذلك أن النص يتضمن مقتطفات مباشرة أو مقتبسة من مصادر متعددة: هي نص ميديا ليوريبيدس، فيلم ميديا لبازوليني، نص ميدياMédée Matériau لهاينر موللر؛ إضافة إلى مقاطع من كتابات فرجينيا وولف وريحانه جباري وغي بييار ذات بنية تركز على عنصر الهشاشة وتصل به إلى حدود تفكيك كل شيء.

تعمد حنان الحاج علي في العرض إلى تفكيك مساحة المسرح وإعادة التأمل بمعناه، أنه اللعب في مساحة فارغة دون تمثيل، حيث تختار التوجه مباشرة إلى المتلقي، ومشاركته كل مشاعرها، تركب العرض من خلال طبقات مبنية على مزاوجة الأسطورة بنسخها المتعددة، ومن وقائع ومصادر لشخصيات شهدت حياتها الهشاشة أو قررت تهميش نفسها.

سنشهد خلال هذا العرض تحويلات مركبة لعدة شخصيات تتم على فضاء خشبة فارغة، يقدم المسرح ضمن مربع بسيط، تجلس فيه حنان هي وحكاية، ومن هنا تبدأ خصوصية العمل: حنان الحاج علي في هذا العرض في موقع ملتبس، تقضي أوقاتاً طويلة وهي تخلق السرد، تتحدث مع الجمهور، تطلب منهم أداء بعض المشاهد ولكنها لا تتحول إلى متفرجة، هي لاعبة وممثلة ومؤدية تلعب أدوار النساء اللواتي تمثل حياتهن ولا يفترض في ذلك أنها تلعب مسرحيات أنما تؤدي مشاهد من حياة وقعت أو تخيلت أنها تقع، كما أنها مؤدية كونها تؤدي مشاهد من نصوص متنوعة أو جزء من لعبة. هذا الموقع الملتبس على المسرح يشبه موقع حنان ب الفعلي بصفتها مواطنةفي المدينة بيروت.

حنان تمسك رسالة بيدها وتقرؤها:

حبيبي، أنا متأكدة إني رح جن، وما بعتقد إني رح طيب هالمرة. بلّشت اسمع صوات من حواليي وأفقد قدرتي على التركيز. لهيك، رح أعمل يللي بشوفو مناسب. إنت حسستني بفرح عظيم وما بفتكر في حدا عاش هيك فرح متل ما نحن عشنا نحن التنين لحديت ما انبليت بهالمرض. مش قدرانة قاوم أكتر من هيك، وبعرف إني قلبتلك عيشتك فوقاني تحتاني ومن دوني رح تعيش حياة أحسن. أنا متأكدة من هالشي... شايف؟ ما عم اقدر حتى سجّل هالرسالة بشكل منيح، ما عم اقدر احكي أو قول شي. كل يللي بدي قولوا أنو أنا ممتنة إلك بسعادتي. كنت كتير طيب وصبور معي. والضيعة كلها بتعرف هالشي. ولو كان في حدا قدران يخلصني كان رح يكون انت. أنا خسرت كل شي ما عدا يقيني بإنك رجال عظيم، وما عاد فيي ضل عم خرب حياتك. وما بظن إنو حدا عاش قصة سعادة متل يللي عشناها.

حنان: الحقيقة هيدي مش الرسالة الي سجلتها ايفون لزوجها بالشريط، هيدي الرسالة اللي كتبتها الكاتبة البريطانية فرجينيا وولف قبل ما تنتحر، كان صايبها اكتئاب قوي بعد الحرب العالمية التانية وبعد ما خسرت بيتها بلندن ولأنو الناس ما كتير حبوا آخر كتابين نشرتون، فبتقوم هونيك نهار الصبح بتكتب رسالتها بسرعة، بتليس الكبّوت الطويل تبعها، بتعبي جيابو حجارة وبتفوت بالنهر القريب من بيتها، وما بتعود تطلع منو.

اللي انقال بهالرسالة هوي اللي تخيلوا كتير من الناس أو اللي حبو إنو يتخيلو عن ايفون ليقولوا إنو مستحيل تصير هيك اشيا بضيعتنا، أكيد السبب مرضي.[2]

كل ما تم ذكره تتم صياغته من خلال هشاشة مقصودة، وتقشف يعكس روح الشخصيات التي تحتفل بها حنان، ولكن يتم مزاوجة هذه الخيارات بأفعال بطولية لشخصيات تحاول الانتصار على النظام السائد: إيفون تقوم بتسميم ولديها اللذين تحبهما وتسجل شريط فيديو توثق فيه فعلتها، زهرة تنتقل من الالتزام اليساري النضالي إلى طلب التضحية بأولادها وأملها في أن يتم اعتبارهما شهيدين، ومن ثم نرى الشاب الذي يطلب من والدته أن ترفض تسمية ابنها شهيد والحداد عليه لأنه ليس شهيداً إنما يتم محاولة إجباره على القتل.

هذه "الأفعال الكبيرة" من شخصيات تبدو صغيرة ضمن معايير الحياة، تعطي للهامش معنى شرعيته، هذه الخيارات التي امتهنتها الشخصيات الحاضرة في هذا العرض هي خيارات مقصودة كما توضح حنان الحاج علي:  

تنسحب الخيارات الحقيقية للفنان على علاقة الفنان بالسياسة، بالمجتمع، بالفن، ومن هنا تنسحب على علاقته بموضوعاته وبخياراته الفنية التي تتعلق بأي نوع مسرح يقوم بالعمل عليه، وما هو الشكل والتوجه الفني، وصولاً إلى تصور ومبدأ ومضمون العمل وهذه حلقات مترابطة تبدأ بسؤال لماذا المسرح ولمن وما الهدف منه وماذا يمثل المسرح كمادة وموضوع وعلاقة بما حوله، أي المسرح بوصفه أغورا، بعد دراستي للعلوم الطبيعية اخترت المسرح، لأن الحرب انفجرت في وجهنا كجيل مراهق واحترقت "سويسرا الشرق" وكأن كل شيء كنا قد تربينا عليه بدا أنه أكذوبة، ووهم الدولة المبنية على المواطنة كمواطنين أسوياء تبين أنه لا يمكن أن يتحقق أبداً في كيان مختلق مفروض من قوى عظمى، ومركب طائفياً[3].

في العرض المقدم تدرك أن الهامش هو خيار نهائي للشخصيات، نتيجة القناعة أن مصير البلد تتلقفه ميليشات سيطرت على الفضاء العام واحتلته، وما بقي للحديث عن الناس المسحوقة هو صوت الفنان الذي يجب أن يقدم صوته ضمن أصوات المجتمع، حيث ترى حنان الحاج علي أن أي مسايرة أو مساومة على هذا الخيار هي مساومة خاسرة لن تكسب أي طرف، إنما ستفرض على الناس المزيد من الخضوع، وإن فكرة احتفاظ الفنان بحريته وتمسكه بخياراته دون أي مساومة هي خيار المحافظة على العلاقات الصحيحة، وتفعيل العلاقات مع الأطراف والمهمشين ومن ضمنهم المهجرين والمنسيين.

 

تبدو الهشاشة أيضاً في صورة المدينة، المدينة هنا بيروت/ أو كورينثا التي لجأت إليها ميديا هي مكان مؤقت يعيش فيه المواطن وهو لديه الأمل في أن يعود ويمسك قدره بيده وأن يصنع حياته، ولكنه في الوقت نفسه يكون متفرجاً على نفسه كونه ما من شيء ليقوم به، وهذا الحال هو حال حنان كما تم تقديمها في العرض، والتي ترى نفسها في بيروت المدينة/ اللا مدينة وكذلك ميديا في كورنثا عاصمة التغريب بالنسبة لها.

إن مفارقة المدينة/ اللا مدينة حاضرة طوال العمل لدى حنان، وهي ضرورية لها، وهي حاضرة على المسرح أيضاً على مستوى اللعبة التي تقدمها لنا، فهي ترسم المدينة أمامنا طيلة العرض وتعيد تفكيكها، ولكن المفارقة في الأمر هي أنه طالما كانت في هذا الموقع الملتبس فالمتفرج واقعٌ في إشكالية الازدواجية وعدم قدرته على تعريف نفسه هل هو متفرج أم مشارك في العرض أم مواطن أم أحد تمثيلات ميديا/ النساء اللواتي يتم الحديث عنهن في العرض؟

إن خيار إخراج جوغينغ والجماليات المتقشفة فيه يعزز معنى الموقع الهش الذي رسمته حنان الحاج علي، في هذا العرض، وهي التي كانت تريد إنتاج عرض يتم تقديمه في أي مكان، وهذا ما حدث خلال جولات العرض التي قاربت المئة بين أفضل مسارح العالم وأصغر بقع الغرف في مخيمات الفلسطينيين والسوريين في لبنان؛ ومن هنا فإن قيمة العمل هي في الأسئلة التي يطرحها عن جسد وحضور ممثلة من نوع حنان الحاج علي وهي تعيش وتمتهن الهامش، وفي الدخول إلى أسطورة واقعية عن تراجيديا متكررة لامرأة تحاول ممارسة الحياة، في هذا العرض التمرين الأكثر نجاعة هو كيف يمكن استخلاص الحكاية الشخصية الذاتية من الحكاية العمومية، يفترض أن حنان تختلق حكاية من حكايا نساء ومن قصص عن فرجيينا وولف وريحانة جباري، وتقوم بروي حكاية بمنتهى الاستثنائية من حيث الهشاشة والهامشية، ولكن التراجيدي في العرض هي أن الحكاية ليست فريدة إنما هي معممة جداً.

عندما أتحدث عن ميديا أتحدث عن القهر والتعب اللذين جلبا ميديا، زهرة، وايفون وحنان في مكان ما، هي شخصيات لها علاقة عضوية بالسياق الاجتماعي السياسي في البلد، تتقاطع مع ميديا، من هنا يبدو خياري وإصراري عليه في أن لا أطلب إذناً رقابياً لعرض جوغينغ، ولكن هل يمكن إعادة التجربة مرة أخرى دون رقابة؟ لا أعرف ولكن هذا الهامش هو قضيتي التي تنعكس على كل ما أقوم به معنوياً ومادياً ومن هنا اختار الهامش بكل مناعة وصلابة[4]

 

Meteo Beyrouth: الهامش في مركز المدينة

هناك عدة طرق للنظر في عمل المخرجة عايدة صبرا الأخير Meteo Beyrouth الذي قدمته خلال شهر تشرين الثاني 2018 على خشبة مسرح مونو، ولكن إحداها هي مقاربة نص قصة حديقة الحيوان لإدورار ألبي، والذي يبدو أن أجواءه سيطرت على كامل مناخ النص. هذا الاقتراح للنظر في النسخة البيروتية من حكاية قصة حديقة الحيوان مغرٍ لأكثر من جهة، حيث تدور أحداث العملين في حديقة عامة. شخصان لا يعرفان بعضهما يتجاذبان أطراف الحديث، يتحدثان عن الحياة، مشكلاتها، أحدهما يعيش ضمن إطار نمطي يتضمن العمل بشكلٍ لائق وامتلاك عائلة، والآخر شخص يبدو أنه غامض وغير مستقرٍ، العلاقة بينهما ستتطور إلى أن تنتهي بجريمة قتل و/ أو عملية انتحار لا يتبين فحواها في أكثر مكان مكشوف في المدينة.

تكمن خصوصية التهميس هنا في عدم الوعي به من قبل الشخصيات على الرغم من سطوعه: شخصان يلتقيان على مقعد حديقة عامة، والحدث يقع في النهار في أكثر مكانٍ واضح للعيان، على مرأى ومسمع المدينة سيتم هذا اللقاء وعلى الرغم من ذلك لا نشعر بوجود أحدٍ يكترث لهاتين الشخصييتن كما لو أن لقاءهما يتم في مكانٍ منزوٍ.

الهشاشة التي يرسمها هذا العرض تأني في السياق اللبناني، تأتي من الأسئلة المتعلقة بالطبقات الاجتماعية. يبدو الطبيب البيطري مستقراً، متزوجاً، لديه عائلة وأولاد ومهنة محترمة، إلا أن هناك تخريب طويل أذاه، بينما المصور المعدم اجتماعياً هو ضحية نظام اقتصادي نيو لبرالي يدمر كل الضعفاء.

بعد ساعة من الحوارات المتشظية والقريبة إلى الهذيان، يتضح ناظم علاقة الحب والكراهية التي تغلف الشخصيتين. هنا ايضاً لن نعرف إن كان اللقاء حصل أم لا، ولكن هجوم المصور على الطبيب في نهاية العرض لا يمكن أن نقرأ معناه بصورة واضحة، قد يبدو هجوماً لوهلة إلا أنه لوهلة أخرى قد يكون افتداءً للطبيب وليس انتحاراً.

طوال العرض تحاول الشخصيتين التواصل ويبدو الفشل حليفهما، يحاولان جاهدين أن يخلقا حواراً يوصلهما لتواصل غير حاصل دون أي نتيجة، يبدو كما لو أنهما يتحدثان بلغتين مختلفتين. وهو ما يعبر عنه المصور بالقول:

كل الموضوع إنو.. إنك بتخاف تكون وحيد.. بس إنت ما فيك تتعامل دغري مع الناس.. التعامل معن شي كتير صعب.. شي ما بيزبط.. ما حتقدر.. لازم تجرب بمكان تاني.. مع شي أبسط بكتير.. وبعدين بتتدرج شوي شوي.. لأنو بالنهاية إنت ما فيك تكون لحالك.. يا ريت قدرت كون لحالي.. بس كان لازم إفهم.. ما كان فيني ضل هيك.. لازم تجرب بمكان تاني.. لازم تبلش مع شي.. بجوز مع كرسي.. مع صحن.. مع صرصور.. مع مراية.. لأ لأ، ما بتزبط.. المراية صعبة.. هي بتجي آخر شي تقريباً.. إي، لازم تتعامل مع شي.. مع صرصور.. مع سجادة.. مع محرمة.. لأ، هي كمان صعبة.. المحرمة بتكشفلك أديه عم تنزف.. شايف؟.. شايف أديه صعب تلاقي شي تتعامل معو.. مع شارع.. مع العجقة.. مع نفخة سيجارة.. نفخة سيجارة.. مع صندوق خشب بدون قفل.. مع الحب.. مع المراجعة.. مع البكي.. مع الغضب[5]

إن ما حدث هو مأساة شخصين ومأساة المدينة، مأساة محاولة التواصل والخلق بين الأفراد وبين مدينة تستحيل على التواصل، حتى الحديث البسيط عن سؤال الطقس يفشل في سياق هذه المدينة. ينتهي العرض كما ابتدأ كما لو أن شيئاً لم يحدث، نحن نتحدث عن حادثة قتل/ انتحار يحاول فيها من عاش التهميش الانتصار للفرد.

في هذا المعنى يبدو أن الخاسر الأكبر هو فردية الأشخاص الذين يتعرضون لنظام من العنف الممنهج غير الظاهر، يجعل الشخصيات تعيش وحشة وعزلة قاتلة في مدينة يفترض أنها مدينة متنوعة تحتفل بالحياة. لقد حوّل العنف في بيروت عوالم كافة الشخصيات التي شاهدناها إلى عوالم مغلقة عالقة بالتكرار، وهذا التكرار على الرغم من أنه نمط حياة الشخصيات إلا أنه أيضاً نصيبها وهو تقنية بناء المسرحية خلال البروفا. وما يقوم به التكرار أولاً هو تحقيق البروفا، أي هو آلة المسرح نفسها، وهو ثانياً السجن الذي تتحول إليه بيروت، وعليه فالعرض المقدم في مكانٍ ما هو تجاذب لأطراف الحديث بين آلة المسرح وبين آلة السجن/ بيروت، والتلاحم بينهما هو نتيجة لاستمرارية فشل الحياة والتواصل.

  

حكاية الرجل الذي سكن ظله: محاولة التحول إلى لا شيء

يستعير مشروع فادي توفيق وهاشم عدنان أساس المسرح بكونه المتخيل. يختلقان شخصية كيفورك كساريان والتي يفترض أنها تمثل جيل من الفنانين اللبنانيين الذي حاربوا الحرب في معارك مستمرة وممتدة. نحن أمام فعل ممنهج بقصد التلاشي، أي الانتقال الواعي إلى أكثر مواقع الهشاشة، وهو الفراغ من أجل محاربة الذاكرة الفردية والمصبوغة بالحرب. تدور فرضية العرض حول سينمائي أمضى سنوات طويلة في التجريب والانتقال بين الكثير من الوسائط الفنية، على ما يظهر في كل مشاريعه التي عمل عليها في بيروت بين الأعوام1975 و 1993، والتي لم تتوقف عن التوالد الواحدة تلو الأخرى، من دون أن يوفق في إنهاء أي منها، وما نفعله خلال العرض التعرف على راوٍ يخبرنا قصة موثقة بكل التفاصيل والتواريخ عن أحداث خيالية لشخصية غير موجودة، إلا أن شرعية هذا الخيال تأتي من خلال قرار الشخصية أن تدفن نفسها وتختفي رداً على تعامل بيروت مع الحرب ومحاولتها نسيانها بسرعة.

يمكن قراءة العمل من خلال ثنائية "الذاكرة واستعارة المسرح" والذي يتجسد في العرض من خلال النبش في المتخيل. يتحدث العمل عن الذاكرة، وبصورة أقرب يحاول مقاربة مفهوم الذاكرة من خلال الشخصية/ الشخص. النص على الرغم من كل تفاصيله في التعامل مع الحرب إلا أنه يخلو من مقاطع القتال ومن توصيفها المتوقع دون الحاجة لتوقع أن كيفورك سمع وشهد قصصاً كثيرة عنه- كون ما يشغل الكاتب والمخرج هنا هو تجربة الماضي وما نراه في النص هو ماذا يبقى، هو أثر الماضي، أي كيف اختار كيفورك أن يعالج هذه المسألة حقيقة وفي الحياة وكيف عكس ذلك على الخشبة؟

خلال مشاهدة علاقات فادي وهاشم التي يبنياها مع المكان/ المسرح، ندرك أن نوعاً من التدمير العنيف تعرض له كيفورك، كما الجميع، وجعله يحاول أن يتحول إلى الهامش، والذي يتجسد بمرور الزمن دون أي جدوى، السؤال في النص ليس عن مقارنة ما جرى في لبنان مع الواقع، إنما هو عن الذاكرة، وكيف يمكن روي ما جرى الآن وهنا بعد أربعين سنة على بداية الحرب؟ سؤال عن ذاكرة أبقت على المفاصل الأكثر إيلاماً مما جرى والتي تحتوي أيضاً على صورة غير ناصعة لما حدث، كل هذا الأمر يعكسه المعرض المرافق لأعمال كيفورك والذي نجد فيه خفة وأعمالاً خاصة غير مكتملة تعزز من جمالية المنتج وتمنحه شرعيته.

تظهر تقنية التكرار في هذا العرض ايضاً، وهي العنصر الأكثر جذباً هنا أو هي العنصر الجوهري في مجمل العرض، حيث ينفتح العرض على إشكالية التكرار فنياً ووجودياً. إن التكرار في العرض هو اختبار لذاكرة كيفورك/ فادي، هو يتحدث عن أعمال سينمائية لم تتم والتي تعادل الذاكرة من باب كونها معاناة فيها مشقة الإجبار على تذكر ما حدث، ثم سرعان ما يربط فادي وهاشم هذا الأمر مع بيروت.

يقول المخرج هاشم عدنان "اشتغلت على عنصرين أساسيين في هذا المشروع، الأول هو الشكل والثاني هو علاقتي مع المضمون. عندما قرأت نص (الأعمال غير المكتملة لكيفورك كساريان) وهو نص من حوالي سبعين صفحة كتبه فادي توفيق، أول ما قلته لفادي أن هذا النص يجب أن يقدم في عرض مسرحي، كان فادي ينوي تقديمه في كتاب ومعرض، وكنت أرى أن المسرح يستطيع مخاطبة هذه المادة بطريقة مختلفة عن المعرض أو الكتاب لأن المسرح يمكنه نقل هذه العلاقة مع الشخصية"[6]

إن كيفورك هو شخصأكثر منه شخصية- غير موجود فعلياً ولكنه موجود كاحتمال ولكنه احتمال قوي وكل من يعرف لبنان يمكنه المقارنة مع كيفروك مباشرةً لأن احتمالات وجوده كبيرة جداً وهذا الخيار الهش هو عنصر قوة في النص القائم على احتمالات الوجود ضمن قصة متخيلة، هو نوع من الاستثمار بالبديهي في لبنان ومشاريع كيفورك المتخيلة تدور حول نفس المواضيع التي تشغلنا مثل التعري والأيروتيكية والعلاقة مع الجسد والآخر والتهجير والبداوة القسرية إضافةً إلى العلاقة مع الصورة الصحفية أثناء الحرب وكيف تشكل ثقلاً على الناس وتساهم في تنميط صورتهم، إضافة إلى موضوعات أخرى غيرها. هو استثمار بالبديهي يدفعنا للنظر إلى الواقع من منظار دقيق ومحاولة إيجاد أو اختراع أبعاد جديدة لهذا الواقع. بالتالي كيفورك يمثل مصالحة مع الواقع وليس مع الماضي ولا مع التاريخ، هو محاولة لمسك الحقائق وتلمسها ومناقشتها وإعادة سردها وعدم تهميشها لصالح مواضيع باتت سائدة في هذه الأيام.

هناك عدة عناصر مجتمعة شكلت مفتاحاً للعرض هي دليل المعرض والراوي أو الحكواتي الذي يخبر الحكاية والكاتب الموجود أمام الجمهور والفنان الذي صنع كل هذه المواد إضافة إلى الفنان الافتراضي الذي نحاول خلق علاقة معه. وهو ما يتحدث عنه المخرج ويصفه بأنه ممتع كجزء من العمل: "كنا نبحث عن طريقة لوضع العرض والمعرض مع بعضهم البعض وبجانب بعضهم البعض مع الإبقاء على احتمالات حدوثهما مفتوحة، و"كنت خلال العمل أكرر سؤالاً على فادي هو: ما مدى قدرة هذه المادة على الوصول إلى كل الفنانين الذين يعيشون في بيروت منهم فالعرض يقدم قراءة لسنوات الحرب والتي عاشها فادي كاملة منذ ولادته عام 75 وحتى نهايتها، وهي قراءة علمية ومتفحصة يدخل فيها علم الاجتماع والفلسفة وعلم النفس الاجتماعي، هذه المواضيع يجب أن لا تهمش في لبنان ويجب أن يبقى هناك مكان للحديث عنها ومناقشتها. مطلوب من الفن أن يتخطى الزمن دائماً ويسبقه ويغذي المخيلة حول المستقبل وهذا أمر جيد، ولكن علينا أن لا ننسى واقعنا الحالي، اذا أردنا التحدث عن المستقبل فقط فنحن نترك الواقع ليحكمه المجرمون."[7]

ما فعله الكاتب فادي توفيق هو أنه مد حبلاً إلى الأمام وحاول سحب الأفكار إلى واقعنا الذي نعيشه الآن، وهذا عمل فيه جانب سياسي يحاول العودة إلى جذور ماضينا القريب لفهم الواقع أكثر والتوافق معه. هذه الأسئلة حول الواقع الراهن هي موجودة بقوة في حياتنا اليومية ولكن لا يرغب أحد في الحديث عنها. فهناك عجز عن التغيير وهي جزء من صراع صعب ومتعب تعيشه الشخصيات يومياً ويصعب علينا التحدث عنه.

لقد أدى هذا في النهاية إلى جعل خيال الفنان مشروطاً بعدم وجوده في المنطقة، ولذلك نجد كيفورك مضطراً لنفي نفسه وفنه إلى الخارج بسبب النظام السياسي الذي يمنعه من العمل، وهذا ما يريده النظام فعلياً فمهما نجح الفن في الخارج يبقى فن مهجر أو مؤجل أو خارج الزمن والمكان الفعلي، أي محاولة إخراج الفن من الصراع.

ما يلفت النظر في العرض هو الإصرار على المتخيل وعلى القصة وكيفية تأليفها وإخبارها من دون أن تكون التفاصيل هي المهمة بحيث يمكن تغيير بعض الأسماء والتواريخ لكن يبقى تخيل سرد قصة مثل هذه والإصرار على بنائها بشكل شامل ممكناً على الرغم من إمكانية تبديل عناصرها بالكامل مثل الأجحية.

 

الحاجة إلى الهامش في مدينة بيروت

عند النظر إلى الأعمال الأربعة المذكورة، نجد أن مفهوم الهامش يمتد إلى المدينة ذاتها، وإلى ساكنيها، ويمكن من هنا إعادة قراءة كل العروض التي توقفنا عندها من خلال ثلاث مفردات هي الذاكرة والانقطاع والتكرار، حيث تدور الأعمال المذكورة كلها حول هذه الكلمات للتعبير عن الهشاشة، وتحاول تجسيدها من خلال الخطاب والفعل. تحدث الواقعة المسرحية من خلال هذا، الأعمال التي بين أيدينا تحاول استحضار الذاكرة والنبش فيها لتعرية الهشاشة والحفاظ على الهامش ضد المركز. وخلال هذا تراوح كل الشخصيات بين التذكر وتجسيد اللحظة في المسرح، لا نتحدث عن الحاضر خارج المسرح بشكلٍ مباشر ولكن يمكننا انطلاقاً من الماضي التفكير فيه كونه مغل بالعنف.

من هنا تسطع المأساة. فإحدى مآسي العنف في بيروت، أنه عنف دوري، يبدأ بالتكرار ويصل إلى عالم مغلق يصنعه العنف وهو عالم يشبه عالمنا من حيث كونه يحمل صفاتاً وخصائص، وهو عالم استحواذي تتكرر فيه الأحداث لدرجة تفقدها معناها وتصبح غير حقيقية، لينتهي العنف بكونه تجربة بلد ومدينة.

 

 

 

 

عبد الله الكفري المدير التنفيذي لاتجاهات- ثقافة مستقلة: كاتب ومبرمج ثقافي يعمل في مجال التدريب والتخطيط الثقافي، عمل مخرجاً ودراماتورجاً لعدد من العروض التي عرضت في سوريا ولبنان. حاصل على ماجستير في البحث في المسرح من جامعة القديس يوسف بتقدير ممتاز وبرتبة شرف مع توصية بالنشر. وهو خريج المعهد العالي للفنون المسرحية – قسم الدراسات المسرحية في دمشق 2007، وهو طالب دكتوراه حالياً بالجامعة اليسوعية.

 

[1] عبدالله الكفري (معدّ)، مقابلة مع جنيد سري الدين حول الإنتاج المسرحي في لبنان، [د.ن]، بيروت، 10-12-2018

[2] - جوغينغ لحنان الحاج علي، ط2، مطبعة رعيدي، ص 17، بيروت، 2018

[3] عبدالله الكفري (معدّ)، مقابلة مع حنان الحاج علي حول الإنتاج المسرحي في لبنان، [د.ن]، بيروت، 2-1-2019

[4] عبدالله الكفري (معدّ)، مقابلة مع حنان الحاج علي حول الإنتاج المسرحي في لبنان، س.ذ.

[5] الاقتباس هو اقتباس حر مما تم تقديمه في العرض

[6] عبدالله الكفري (معدّ)، مقابلة مع هاشم عدنان حول الإنتاج المسرحي في لبنان،[د.ن]، بيروت، 19-12-2018.

[7] عبدالله الكفري (معدّ)، مقابلة مع هاشم عدنان حول الإنتاج المسرحي في لبنان، س.ذ